الخليل النحوي يكتب لجريدة الشعب بمناسة التنصيب

أراد الله لبعض الكتاب أن تظل كتابته  جديدة ومتجددة لا يندثر أثرها في نفوس الناس  وإن عفت الديار حولها وتقادم  عهد الزمان عليها .

ومن هؤلاء الكتاب الشاعر والأديب الخليل النحوي الذي نعيد اليوم نشر مقاله في جريدة الشعب أيام تنصيب رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني في هذه المأمورية ..

…لقد كتب الخليل تحت عنوان:
“مساحات سياسية للإعمار”
معركة تغيير العقليات وإعادة تشكيل المواقف الذهنية من أصعب المعارك التي يمكن أن يخوضها شعب أو تخوضها قيادة بلد يريد الإقلاع، بل هي أم المعارك وأصعبها على الإطلاق، لأنها حاكمة مهيمنة على ما سواها من المعارك، دقيقها وجليلها.
وتزداد المعركة صعوبة إذا كانت أنساق الرؤية والتصور التي تنتج حكمنا على الأشياء، وتحكم تصرفاتنا وأفعالنا وردود أفعالنا، قد تشكلت غالبا في حالات شبه غيبوبة أو غفلة أو شرود، فلم تخضع لميزان منطق ولم تستضئ بنور عقل، فإذا تنزلت في مواقف معلنة أو تصرفات عملية تنزلت متلبسة بدخن، قلما يعصم العالم منه علمه أو المثقف ثقافته أو ذا الحجا حجاه.
من تجليات هذه الحالة في علاقتنا بالدولة ورموزها أن ننظر إلى الدولة بحسبانها كائنا آخر، مختلفا عنا، علاقتنا به علاقة رهبة أو رغبة أو مخاتلة؛ علاقة كلية حدّية، أحادية اللون والطعم، علاقة مضطربة مغشوشة، تفضح أو تغطي – في أحسن حالات الوعي، إلا من رحم ربك، صراعا بين القلب أو العقل المستتر من جانب وبين اللسان والتصرفات العلنية المكشوفة من جانب آخر، وهو صراع كثيرا ما يفقد فيه القلب، ملك الجوارح، سلطته على رعيته.
حين تسود حالة كهذه، فلا تستغرب إن وجدت مجتمعا حديث عهد بالدولة المركزية، لم يألف الخضوع لنواميسها، يتأبى على الانضباط بقيود الدولة المنظمة، وهو مع ذلك ينتظر كل شيء من الدولة، دون أن يدرك أنه هو “الدولة” أو “اللا-دولة”، وأن من يظن أنهم هم “الدولة” لا يملكون عصا موسى ولا خاتم سليمان (عليهما السلام)، وإنما يملكون جهدا بشريا هو جهد اليد البانية إن صدق الحاكم في نيته، وحدد وجهته، ووجد في شعبه وفاعليه العون الناصح الحافز للخير الحاجز عن الشر، وهو جهد المعول الهادم، إن استبد الحاكم برأيه، والتبست عليه الرؤية، ولم يجد بين يديه إلا من ينتظرون منه كل شيء ولا يعينونه بشيء، أيدوه أو عارضوه.
ولا عجب، والحال هذه، إن وجدت ذا حجا وصيت وصوت يعطي حجاه إجازة غير معوضة، ويضع صوته وصيته حيث تتموقع رغبة قد تكون لمع سراب، أو رهبة قد تكون خيط دخان، وفي كل الأحوال حيث لا يريد له حجاه، لو لم يكن في إجازة.
ولا عجب، والحال هذه، إن وجدتَ المشهد السياسي العام منقسما إلى فسطاطين حديين، شعار أحدهما “نعم” عريضة لا حد لها في الظاهر، رغم أن نواميس اللغة العربية جعلتها مما تنطبق الشفتان بانتهائه فينقطع الصوت فجأة وبدون تدرج، وشعار الآخر “لا” متذبذبة مهزوزة أحيانا، وإن أعطتها اللغة حق امتداد الصوت إلى منتهاه.
هذه الحالة العامة التي هي نتيجة مواقف ذهنية تشكلت بغير ضابط ولا رابط تشكل في حد ذاتها عائقا كبيرا في وجه أي محاولة جادة للنهوض والتغيير، والحركة نحو هدف محدد ووفق معايير، فهي تكبل الناس عن الفعل الراشد المسدد، لأنها تجعلهم يختزلون علاقتهم مع الدولة في العلاقة بالحاكم، ويختزلون علاقتهم مع الحاكم في العلاقة بكرسي هزاز، ويتصرفون من ثم بما تمليه عليهم هواجس الرغبة والرهبة لا بما تمليه قيم الملة والوطنية ومقتضيات العقد الاجتماعي.
ومن الطبيعي أن تكبل هذه الحالة القائد إذا لم يستطع أن يفرق بين جسمه وروحه وجسم الكرسي الهزاز، فيقتنع أولا – ثم يقنع الناس ثانيا – بأنه ابن “امرأة من قريش (أو من غير قريش) كانت تأكل القديد”، ويقتنع، ويقنع الناس، بأن العقد الاجتماعي بينه وبين الناس عقد خدمة لا عقد تسلط، وبأنه لن يحابي أحدا لمجرد أنه تزلف له فخلع عليه من صفات الألوهية أو من صفات النبوة ما ليس له، ولن يؤذي أحدا لمجرد أنه رأى غير رأيه في أمر ما، أو لم يهتد إلى مواطن رضاه المعهودة في مهرجانات المجاملات والمبادرات.
وحتى لا يكون مثله مثل النملة التي استمرأت طعم العسل حتى وقعت فيه، فلم تجد منه فكاكا، أو مثل الضفدعة التي راق لها دفء ماء القدر فاستكانت له، وحين اشتدت حرارته كانت قواها قد خارت فلم تستطع منه خلاصا، يحتاج الحاكم إلى أن يكون حازما فلا يغتر بطعم العسل ولا بدفء الماء. ويعني ذلك أن يسمع “نعم” فلا يغتر بها وأن يصغي بانتباه إلى “لا” قبل أن يمتد بها الصوت كثيرا وترتفع حرارته، وأن ينشئ بين (لا) و(نعم)، بل بهما معا منطقة حظوة، يدرك المنتجعون أن تذكرة الدخول إليها هي الفعل الراشد لا القول الفج، وهي الولاء للوطن، لا الولاء للكرسي، وهي الوفاء للقيم الثابتة لا الدوران مع قيم “البورصة” السياسية المتقلبة.
تلك معركة أساسية لا بد من خوضها، وهي قبل أن تكون معركة تنمية وبناء، معركة صياغة مواقف ذهنية جديدة تؤسس لفهم جديد للدولة ولعلاقة جديدة بين المواطن والحاكم، وهي معركة يحتاج الحاكم فيها إلى أن يتسلح برؤية وبأسلوب عمل قوامه الشورى في الأمور النظرية، و”التويزة” في المهمات العملية. وعلى كل، فإنه يستحيل على الحاكم حسم هذه المعركة بمفرده، وإن كان له فيها دور محوري، ويتعذر على المواطن حسمها في غياب إرادة سياسة حافزة. ولكل من الطرفين، في هذه المعركة، واجبات تجاه الآخر وحقوق.
من حق الشعب أن ينتظر من الحاكم “أضعف الإيمان”: العدل، لأن العدل لا يكلف الحاكم شيئا، ولأن حكمه لا يقوم أصلا بدونه، ولأن كلفة غيابه باهظة على الحاكم والمحكوم معا، وأيما نظام بنى حكمه على غير العدل فقد أسس بنيانه على شفا جرف هار.
ومن حق الشعب أن ينتظر من حكامه إشاعة الأمن وبسط الحريات، بميزان قسط، لأنه لا تنمية ولا تربية ولا حرية بدون أمن، ولأن الحرية حق طبيعي شرعي ودستوري للإنسان، ولأن تقييد الحريات المشروعة كبت، والكبت يولد الانفجار، ولأن الشعوب الخائفة أو المستعبدة لا تحسن التفكير ولا العمل ولا الإنتاج، وإنما تحسن التدمير والفوضى إذا بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين.
ومن حق الشعب أن ينتظر من حكامه الأمانة والعفة المالية وبذل الوسع في توزيع الثروة بالقسط، لأن الأمير في جوهر ثقافتنا أجير عند الشعب، خادم له، ولأن ثروات البلد، أي بلد، ملك لأبنائه جميعا، والتصرف فيها بغير حق غلول، ولأن اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء هو أخصب تربة لزراعة الحقد واللصوصية وهو طريق سيار للتشظي والانشطار.
ومن حق الشعب أن ينتظر من حكامه حسن الإصغاء إليه، لا لأن الحق في التعبير حق أساسي فحسب، ولكن أيضا لأن الناس حين يُسمِعون الحاكم صوتَهم يعطونه من خير ما عندهم، ولأنه إذا أصغى إليهم عرف كيف يخدمهم، ورضي اللـه عن القائل: “رحم اللـه امرأ أهدى إلينا عيوبنا”، فكيف إذا كانت الهدية نصحا وتوجيها وإرشادا وتنبيها.
لكن في مقابل هذا كله، ليس من حق الشعب أن يقول للحاكم – إذا دقت ساعة معركة التنمية والإصلاح – {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}. وليس من حقه أن يقول له “أنزل علينا مائدة من السماء”، أو “مر السماء فلتمطر علينا ذهبا وفضة”، ولم يكن قط من حق الناس أن يقولوا لنبي، ولن يكون من حقهم أن يقولوا لحاكم: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وأعناب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا}.
كثير هو الكلام عن العظماء، وكثيرا ما تسند إليهم الأعمال الجليلة، لكن الحق أن كل عبقرية أو إبداع أو إنجاز ذي بال يسند لقائد ما في تسيير شأن عام هو – في المقام الأول – مؤشر التقاء بين إرادة سياسية صادقة وبين قوة عمل وإنجاز فاعلة، تضم إلى جانب القائد ناسا مخلصين.
حتى الأنبياء، وهم في عز التمكين الإلهي، إنما ينجزون ما ينجزون – عدا المعجزات – بالصادقين من المؤمنين. ولذلك قال اللـه لنبيه الأكرم عليه الصلاة والسلام {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين}، فأشرك المؤمنين في هذا النصر ولو شاء لجعله إلهيا محضا، وقال بما يؤيد ذلك {يا أيها النبيء حسبك اللـه ومن اتبعك من المومنين}. ولو جاز لأحد أن ينفرد بحيازة إنجاز لجاز من باب أولى للواحد الأحد. ولوضعنا نقطة نهاية عند قوله {هو الذي أيدك بنصره}، وأخرى عند قوله {حسبك اللـه}، لكنه قانون الارتباط بين الإنجاز الكبير وبين جماعة الناس المؤمنين العاملين. قانون إلهي وسنة كونية.
في حياتنا المعاصرة هناك دول حققت ما يوصف بأنه معجزات تنموية، ونحن بحاجة إلى أن نتعلم منها، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها. المشترك في تجارب هذه الدول هو اغتنام سانحة تاريخية، لتغيير الرؤى والمواقف الذهنية وللَمِّ الشتات وتحفيز العمل الجماعي وفق رؤية مشتركة.
كانت إيرلندا من أكثر الدول الأوربية تخلفا. وفي أقل من ثلاثة عقود، نجحت في أن تكون، بعد اللكسمبورغ، أغنى بلد في الاتحاد الأوروبي. كانت وصفتها للتغيير مجانية التعليم حتى في الجامعات، وتخفيض الضرائب من أجل جذب الاستثمارات، وعدم تسييس العمل التنموي، والاتفاق المسبق بين الحكومة والفاعلين في البلد على خطط العمل. وعلى أهمية التعليم والاستثمار، فإن النقطتين الأخيرتين هما بيت القصيد فيما نريد أن ننبه عليه من شروط الإقلاع… إنه العمل الجماعي.
وفي قارتنا هناك تجارب حرية بالتأمل من أبرزها اليوم ما يوصف بـ”معجزة رواندا” التي ضمدت جراحها النازفة، واستطاعت بسرعة وبحكمة أن تسلك طريق نمو اقتصادي متسارع فعلا (8% سنويا)، مؤسس على الديمقراطية التوافقية واقتسام السلطات، وتغيير العقليات.
وفي محيطنا الإسلامي سجلت ماليزيا قصة نجاح لافت، استطاع محاضر (مهاتير) محمد أن يوظف فيها القيم الروحية والثقافية الإسلامية في تحسين إدارة الدولة وفي عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية.. وجعل للتغيير ثلاث مرتكزات هي تطهير البلاد من الفساد، ورفع الكفاءة، والتحلى بالأمانة، وساعده شعبه حين سادت فيه روح التسامح وتقبل المحظوظون منه التمييز الإيجابي لشعب الملايا الذي كان يعاني من الفقر. وبالعمل الجماعي والجهد الواعي، استطاع محاضر محمد – كما يقول في مذكراته – أن يجنب بلاده هاوية الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 1998… إنه السر نفسه: رؤية وعمل مشترك.
وفي عودته الثانية لشغل منصب رئيس الوزراء (في نظام برلماني) اتخذ مهاتير خطوة رمزية قصيرة الأمد وهي تعيين نفسه وزيرا للتربية، ليؤكد محورية التربية في اهتمامه، واستصدر عفوا عن أكبر خصم له، وأعلن استياءه من اعتقال الشرطة لرجل وجه إليه إهانة. وكانت تلك عودة إلى نهج الوفاق والقيم.
وغير بعيد من ماليزيا، سجلت سنغافورة قصة أخرى من أروع قصص النهوض من قاع الفقر والعطش إلى قمة النمو الاقتصادي والصناعي. وما يهمنا في تجربتها أكثر من غيره هو ذلك الأساس الذي رأى زعيمها لي كوان يو أنها لم تكن لتنهض بدونه، وهو برنامج تغيير “الرؤى السلوكية” للمواطنين. ولم يجد لي كوان يو حرجا في الاعتراف بأنه كان يتدخل في الشؤون الخاصة لمواطني بلده، لأنه كان يرى أنه لا يستطيع أن يبني النهضة إلا بالتدخل في عادات الناس وتقاليدهم و”رؤاهم السلوكية”.
تلك وصفة صالحة، بل وضرورية لنا نحن أيضا، فلا سبيل إلى النهوض إذا لم نبادر ونجتهد في تغيير “الرؤى السلوكية” أو ما أسميناه – أعلاه – التصورات والمواقف الذهنية، فنبني رؤية جديدة، مشتركة، ونؤسس عليها عملا مشتركا.
بدون رؤية لا نستطيع أن نتحرك إلا خبط عشواء، وبدون عمل مشترك، لا نستطيع أن ننجز. ولنأخذ العبرة مرة أخرى من القصص القرآني، فلحكمة بالغة لم يكتف اللـه بأن يخاطب نبيه داود عليه السلام فيقول له {اعمل سابغات وقدر في السرد}، وإنما عطف على خطاب المفرد هذا خطاب جمع يتجه إلينا جميعا فقال {واعملوا صالحا}، لنعلم أن الإنجاز الفردي لا يكاد يقع إلا على سبيل الإعجاز، وأن سنة اللـه الكونية في العمل، خاصة إذا أريد به الإصلاح، أن يكون عملا جماعيا، فباستطاعة المفسد أن يفسد وحده، لكن المصلح الحق هو ذاك الذي يكون عضوا أو محورا في جماعة صالحة مصلحة.
لقد باءت جميع محاولات الأفراد لتسلق قمة “أفرست” بالفشل الذريع وكثيرا ما كانت تنتهي بالموت، وحدها المجموعات هي التي نجحت في ارتقاء القمة، وما ذاك إلا أن كل متسلق كان يكتسب قوة إضافية وأمانا زائدا بعضويته في جماعة تتآزر في رفع التحدي.
في العمل السياسي والتربوي والتنموي، وفي الإصلاح الاجتماعي، هناك قمة أفرست (أو بالنسبة لنا كدية الجل) ينبغي أن نتوق لتسلقها، وقد يبدو الأمر شاقا لكنه بالعمل الجماعي سيبدو ممكنا وميسورا.
وفي تسلق القمة لا بد للقائد من دور “قيادي” لكنه سيظل دورا ضمن الفريق. ومن قوانين القيادة الماهرة ألا يستأثر القائد وحده بالقيادة، بل لا بد أن يحيط نفسه بقادة مهرة، فيكون قمة بين القمم، لا قمة كل ما حولها حضيض.
هل فهمنا مغزى أن يكون للنبي صلى اللـه عليه وسلم في عروجه إلى السماء رفيق، وأن يكون له أكثر من رفيق في هجرته، وأن يكون له مجلس شورى، رغم أن اللـه يوحي إليه من فوق سبع سماوات!
قبل شهور اصطدمت سفينتان تونسية وقبرصية وحدثت كارثة بيئية بتسرب 600 طن من النفط والزيوت في المياه الإقليمية الفرنسية، بالرغم من أن الأجواء كانت جيدة والرؤية الخارجية كانت واضحة.
وفي مارس عام 1989 اصطدمت ناقلة النفط “إكسون فالديز” بحاجز صخري قبالة ألاسكا فتسرب 37 ألف طن متري من النفط ونتج عن الكارثة نفوق الأسماك وتلوث البيئة البحرية، وكلف تنظيف المياه ملياري دولار على مدى ثلاث سنوات، بينما تكبدت الشركة أكثر من 5 مليارات دولار في تعويض الخسائر.
في الحالتين قيل إن قائد السفينة كان نائما.. وبذلك تكون الكارثة نتيجة خطأ مزدوج: غياب الرؤية، لأن النائم لا يبصر؛ والانفراد بالقيادة، إذ لو كان مع القبطان مساعد أو مساعدون لكانت حظوظ النجاة والوصول إلى الهدف أفضل بكثير.
تماما كما هو الشأن في قيادة سفينة أو طائرة أو أي وسيلة نقل جماعي، يحتاج قائد الدولة إلى رؤية واضحة، يعوضها في ظلمة الليل بكشافات مضيئة، ويحتاج إلى من يشد من أزره ويعينه. والرؤية الواضحة ذاتها، عندما يتعلق الأمر بقيادة الدول، لا تتأتى دون مؤازرة، فهي رهينة إلى حد كبير بعمل جماعي، كما أن تنزيل الرؤية على أرض الواقع لا يتأتى إلا بعمل جماعي أيضا.
عادة، تعطي البرامج الانتخابية صورة أولية عن الرؤية لكنها صورة تحتاج دائما إلى إنضاج وإلى تكبير لبعض المشاهد الجزئية (تفاصيل الرؤية، وخططها التنفيذية، مثلا). ويطرح ما بعد الانتخابات، أيا كانت، تحدي التفكير والعمل – معا – من “خارج الصندوق” الذي يفترض أن ينتهي دوره عندما يحدّث أخباره.
لكن ذلك يتطلب مغالبة العديد من المعوقات والإكراهات. إنه يتطلب الخروج – دون تنكر – من قفص المبادرات، خصوصا تلك التي تحاول أن تجعل القبيلة أو الجهة أو الحزب أو مجموعة بعينها بديلا للوطن كله أو وصيا عليه. ويتطلب الانعتاق من أسر المغالبة الانتخابية، وتحطيم الحواجز النفسية والسياسية، والمهارة في تحويل الفرقاء إلى شركاء، والخصوم إلى أصدقاء، والحذر كل الحذر من الانخراط في صناعة الأعداء.
يقول مؤرخ غربي: “كل من يقود أو يريد أن يفعل شيئا ما لا بد أن يجد ضده من يريدون أن يفعلوا نفس الشيء، ومن يفعلون عكسه تماما، والجيش العرمرم الشرس من أولئك الذين لا يفعلون شيئا”.
وهكذا كلام صحيح يشهد له قول الذين قالوا {ونحن أحق بالملك منه}، ويشهد له قول الذين قالوا {۟ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِۦ مِنْ ءَايَةٍۢ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}، وقول الذين قالوا {إنا هاهنا قاعدون}.
إنها حال أي مجتمع تختزل فيه المواقف في ثلاثة: موقف المنافس الذي لا يرى لغيره حقا في شيء، وموقف المعاند الذي لا تجدي معه الحجة نفعا، وموقف القاعد الذي لا يعمل ولا يعين من يريد أن يعمل، وهو ما يعبر عنه بالأغلبية الصامتة.
لكن ثمة فئة أخطر من هؤلاء جميعا هي ذلك الجيش الجرار من أولئك الذين لا يدخرون أي جهد من أجل أن يقولوا للحاكم مقالة ابن هانئ في المعز الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمـــــد وكأنما أنصارك الأنصــــار
أنت الذي كانت تبشرنا بــه في كُتْبها الأخبار والأحـبار
والخطير في هؤلاء أنهم لا ينفكون يفتلون من الحاكم في الذروة والغارب إلى أن يجعلوه يصدق بأن الحياة لا تقوم بدونه وأنه وحده من يمتلك الحقيقة، وأن كل مشفق ناصح إنما هو معارض ناطح، وأنه ليس بحاجة إلى أحد وإنما “الآخر” هو من يحتاجه.
أشباه هؤلاء هم الذين جعلوا فرعون يقول ذات مرة “أنا ربكم الأعلى”، ولولاهم لما فكر في أن يقول مقالته. وسيكون الحاكم، أي حاكم، بحاجة إلى مناعة ذاتية عالية لكيلا يقع في الفخ الذي يستدرجه إليه هؤلاء وأمثالهم ممن لا يرون له إلا ما يرى، فبينما هو يتطلع، في كبريائه، إلى أن يبلغ أسباب السماوات إذا به فجأة يهوي في قاع البحر، حيث لا مغيث ممن كانوا يسبحون بحمده ويقدسون له. والأدهى أنه قد يهوي بهم معه إلى القاع.
وإذا صح ذلك بالمطلق، فإنه صحيح من باب أحرى في حال بلد كبلدنا، ضعيف إرثه في تقاليد الحكم والدولة المركزية، هشّ نسيجه الاجتماعي، مسكون بأوجاع داخلية مزمنة، محفوف بأخطار إقليمية ودولية سريعة العدوى شديدة الانفجار.
لمعالجة تلك الحالة بطابعها البشري العام وبخصوصياتها المحلية، ولكيلا نهدر المزيد من الفرص، نحتاج جميعا إلى العمل بجد من أجل غرس ثقافة سياسية مختلفة، نبتعد بها أكثر فأكثر من ثقافة “أنا أو الطوفان” (وقد خطونا خطوات مقدرة في أكثر من مرحلة على هذا الطريق)، ونخرج بها من الثنائيات الحدية الصارمة، ثنائيات الخيار بين الأبيض والأسود، بين الكل والعدم، بين “التأييد المطلق” و”التنديد المطلق”، بين “بداية التاريخ”، و”نهاية التاريخ”. إنها ثنائيات غير واقعية وغير مجدية وغير عقلانية، فبين الأبيض والأسود ومعهما ألوان عدة، ليس الرمادي ولا الأبقع إلا أحدها. وبين الكل والعدم مسيرة ملايين السنين الضوئية أحيانا. ولا شيء في حياة الناس يستحق “التأييد المطلق اللا مشروط” إلا الحق المطلق الذي لم يَشُبْه باطل. ولا شيء في حياة الناس يستوجب “التنديد المطلق” إلا الباطل المحض الذي لم يخالطه خير. والتاريخ لا يبدأ مع أحد ولو كان آدم عليه السلام، لأن الشعراني يقول إن الأوادم كثر، وكذلك – على نحو مّا – يقول العلم الحديث، بل إن القرآن يحدثنا عن تاريخ ما قبل خلق آدم. وكما أنه لا يبدأ مع أحد، إلا الواحد الأحد، فإن التاريخ أيضا لا ينتهي مع أحد، إلا يوم ينفخ في الصور، وينتهي الناس أجمعون.
هناك، إذا، مساحات واسعة بين الحد والحد، نحتاج إلى أن نستكشفها، برؤية واضحة، ونسير فيها بحركة راشدة، ونعمرها بعمل مشترك، فنؤازر أمناء ناصحين، ونعارض أمناء منصفين، ونعمل معا في كبريات الشأن المشترك، مهما اختلفت رؤانا واجتهاداتنا الفرعية..
وفي هذه المساحات، من حق أي حاكم جديد لم يُجَرَّبْ بعدُ في إدارة شؤون البلاد، ولم يضبط متلبسا بالجرم المشهود، ألا تُسلط عليه عصا الأحكام المسبقة، أو يُشهَر في وجهه سيف المواقف الحدية العجلى. من حقه أن يمنح فرصة مناسبة لخوض الامتحان العسير، امتحان تقليص الهوة بين الوعد والإنجاز، وأن يعان على ما يريد من خير، فيؤازَر فيما هو صواب بصدق ونزاهة، ويُحجَزَ عن سواه، فيعارَض فيما هو خطأ بصدق وموضوعية. ويقتضي ذلك ألا نشيطنه قبل أن نختبره، وألا نؤلهه مهما عمل من خير، وألا نتخلف عنه إن أراد أن يتحرك بنا إلى خير. ولنا من بعد أن ننظر فنحكم له أو عليه.
وتلك مرة أخرى، قضية من قضايا الموقف الذهني الذي هو بحق أم المعارك، وهي أيضا قضية إعمار مساحات سياسية واسعة فارغة أو شبه فارغة.