إذاعتان كان لهما فضل كبير علي، حين جعلتاني أعيش بعض الوقت خارج محيط القرية الوادعة التي كنت أظن أن العالم ينتهي بانتهاء حدودها وحدود ما يليها من قُرى.
لقد انسقت مبكرا وفي ظروف لم أعد أتعقَّل منها إلا النزر اليسير، لمتابعة أثير إذاعتي نواكشوط ولندن، وشيئا فشيئا بدأت تتوطد العلاقة بيني وبين أمواج الإذاعة القصيرة والطويلة والمتوسطة والترددية، بدون تردد..
أصبحت أستعذب سحبي بلطف من الإنغماس في تفاصيل عالم القرية ويوميات المحظرة، إلى عوالم أخرى أسمع عنها لأول مرة فيزداد شغفي بتتبع أخبارها والوقوف على جديد أمرها.
كانت كل واحدة من الإذاعتين، تُرمِّم فراغات روحي دون أن أشعر، كانتا تقومان بعملية إنسانية نبيلة معي في بدايات تكويني الفكري والثقافي والإنساني، وهي العملية التي سأحسُّ بها وبنبلها بعد ذلك بزمن طويل.
ومع مرور الوقت أصبحت أُطِيل الجلوس مع العائلتين الإذاعيتين كفرد منهما؛ إن لم يكن بالنسب فبالولاء.. أصبحت الأصوات حلوة في أذني؛ أتبينها بمجرد التحية، متخيلا شخوصها، وهو تخيل صدق بعضه وكذب بعضه، بعد ذلك حين ذهبت إلى نواكشوط وطالعت أعدادا من مجلة "هنا لندن" وتفرجت على بعض الإذاعات المرئية الوليدة يومها.
كانت تختلف علاقتي بأفراد العائلتين من فرد لفرد، فأميل بحكم التكوين والدراسة إلى مقدمي البرامج الثقافية والأدبية، وأنبهر نظرا لعامل الجِدَّةِ بأصحاب البرامج الحوارية في الفكر والسياسة، إلا أن علاقتي بالكل علاقة طيبة.. أستمع لهم جميعا بالعين قبل الأذن (والعين تسمع قبل الأذن أحيانا)، حتى الضيوف الذين يدمنون استضافتهم، أصبحت أميزهم من أصواتهم وأعي تميزهم من نبرات أحاديثهم(ويبين عتق الخيل من أصواتها).
وحُبِّبَ إلي من مقدمي نشرات الأخبار، سليمُ اللغة صقيلها فصيح اللسان، غير المتصنِّع في قراءته، الواسع الثقافة، العارف بأسماء الأماكن والأشخاص، المحافظ على طريقة موحدة في مخاطبة مستمعيه لا يتركها حتى تترك النوقُ الحنينَ، وكانت الإعلامية المقتدرة الناها بنت سيِّدي، المثال على كل ما قلنا.
تذكرت ذلك وأنا أتابع نعيها اليوم.. لقد كانت أيقونة الإعلام الوطني المتفردة وأحد أشيائه الجميلة التي يتفق الجميع على تميزها وريادتها ونبلها ومعرفتها بما تقول وتفعل.. كان صوتها الهادئ الناعم الحنون القادم من نواكشوط، محملا بأريج أصالة جليلة متوارثة وعبق مدنيِّة غير متكلفة، صوتا سلسا لا سبيل للعجرفة إليه، متمكنا من اللغة لا يؤذي مستمعيه بتَقَحُّم الممنوعات نحوا وصرفا، منسابا لا هو بالعالي المزعج ولا الخافت غير المسموع، لا شطط فيه ولا صخب.
سقت ضريحها شآبيب الرحمة والمغفرة، وربط على قلوب أفراد عائلتها الكريمة.
خالص العزاء لذلك البيت الكريم خصوصا أختيَ الفاضلتين: رباب ودلال، ومن خلالهم إلى عموم العائلة ومن تعلق بها، وإلى الأسرة الإعلامية جمعاء، وإلى كل الموريتانيين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.