نحن ومجلة "العربي"/ محمد لمام

في مقال لي في العدد 713 من مجلة العربي الكويتية بتاريخ أبريل 2018، تناولت قصة العربي مع بلدنا منذ أول استطلاع أجرته المجلة في ستينيات القرن الماضي.
جاء ذلك الاستطلاع في ظرف كانت بلادنا خارج الجامعة العربية.. فعرّف المشرقَ بموريتانيا العربية بعد أن انقطعت علاقتهما منذ توقف رحلات الحج من شنقيط وأكمل الاستعمار تلك القطيعة.
ونجد صدى ذلك التعريف في الدراسة التي أعدها د. طه الحاجري عن الشعر الموريتاني في العدد 107 بتاريخ أكتوبر 1967 تحت عنوان: " شنقيط أو موريتانيا.. حلقة مجهولة في تاريخ الأدب العربي".

كان استطلاع العربي إذن من أولى بشارات عودة موريتانيا إلى الأم العربية، وعودة الطائر إلى عشه إن صح التعبير، ويبدو أن إدارة المجلة كانت واعية بمسؤوليتها تجاه ذلك الجزء القصي من الوطن العربي، وأن صوتها يمكن أن يؤثر على الدول العربية فيدفع إلى اعتراف بهذا الابن الفتي الذي يتلمس خطاه ويريد من أشقائه الاعتراف والقبول بينهم في الجامعة العربية.

ثم بعد ذلك عاد الأستاذ سليم زبال في استطلاع ثانٍ بمذاق مختلف لكنه يتكامل مع الأول لأنه عاد إلى الأصول وإلى منبع التاريخ والحضارة الإسلامية في موريتانيا مدينة شنقيط. وذلك في العدد 118 بتاريخ سبتمبر 1968 بعنوان: "تحت هذه الرمال ترقد شنقيط" كأنما ليقول للقارئ العربي إن ذلك الوجه العربي الأصيل الذي شاهده في الاستطلاع الأول لم ينبت من فراغ، بل أصوله موجودة متجذرة هناك في مكتبات شنقيط العامرة بالكتب، وآثارها التي شعّت على شمال أفريقيا لعدة قرون. 
ثم عاد فريق المجلة في استطلاع ثالث في العدد 129 بتاريخ سبتمبر 1969 بعنوان: "موريتانيا الجنوبية" كان يهدف إلى إعطاء صورة عن الفرص الاستثمارية والاقتصادية في جنوب بلدنا.
ومع هذه الاستطلاعات، نما الحب المتبادل بين المجلة ووطننا، فزادت شعبيتها بين القراء والمثقفين المتعطشين لكل ما هو عربي وإن كانت قنوات التوزيع يومها ضعيفة أو غائبة في أغلب الأوقات، والصلة بالوطن العربي ما تزال ضعيفة أيضاً فكانت تصل عبر قنوات خاصة، وعن طريق الأفراد خلال أسفارهم للدول العربية..
لكن مجلة العربي التي أسست لنفسها مكاناً خاصاً لدى المتلقي الموريتاني ستصبح خلال سنوات قليلة لاحقة المجلة العربية الأكثر حضوراً وطلباً ومطالعة في بلادنا. فقد وجد فيها القارئ الموريتاني ما يرضي تطلعاته القومية في ظرف كانت تحتدم فيه في الساحة الوطنية أفكار كثيرة، ومواجهات فكرية وثقافية على صُعُد عدة.
وهكذا كان اللقاء الذي يمكن وصفه بالتاريخ - كما كانت العربي كلها حدثاً تاريخياً - بين القارئ الموريتاني ومجلة العربي، فاحتضنها، وزودته بما يحتاجه، واكتشف في صفحاتها تلك الأسماء الرائعة التي خدمت الثقافة والفكر والأدب العربي بأقلامها الرائدة، ابتداء من الكاتب الكبير د. أحمد زكي وحديثه الشهري الذي حمل دائماً مواقف عربية أصيلة من القضايا الفكرية والثقافية المطروحة على الساحة العربية في تلك الحقبة، ومع كتاباته الأخرى في الموضوعات العلمية واللغوية التي كانت تهدف إلى خلق ثقافة علمية عربية، وصناعة قاموس علمي عربي، ومن ثم كتابات خليفته في رئاسة التحرير اللامع أحمد بهاء الدين وبعدهم الكاتب والمفكر د.الرميحي بتلك الكتابات الرصينة التي التزمت بالخط الثقافي الشامل الذي رسمته المجلة ورسخته على مستويات أقلام عدة  مثل محمد خليفة التونسي وجماليات اللغة العربية، وأنيس المقدسي وكتاباته الأدبية، وحسن عباس وكتاباته النحوية، ونجيب محمد بكير وكتاباته عن التشريع الإسلامي، والدكتور عبد الحليم منتصر ومحاولاته في المعجم العلمي للعربية، ومحمد عبد الرحمن مرحبا ومعالجاته في الفكر العربي، ومنير نصيف وصفحته الاجتماعية، وغسان حتاحت وكتاباته في الطب، وجميل صليبا وكتاباته الفلسفية، وكثيرون كان لهم أثر كبير في تاريخ الفكر والأدب وكان حظ المثقف الموريتاني، والقارئ العربي أينما كان أن تكفلت العربي بحمل تلك الأقلام إليه.
بلد المليون شاعر
بسبب "العربي" راجت أقوال عدة عن موريتانيا في العالم العربي، وخاصة في المجال الأدبي. ويعود إلى سليم زبال في أول استطلاع له حول بلادنا، فضل انتشار لقب بلدنا "أرض المليون شاعر". وهو ما سبق أن استخدمه الكاتب اللبناني يوسف مقلد، حيث روجت العربي لهذا العنوان وكرسته بين المهتمين بشؤون الثقافة العربية، وكانت صفحاتها منطلقاً للفكرة التي انتشرت بعد ذلك في الدراسات الأدبية عن الشعر في بلادنا، أي أن الأدب في بلدنا لم يعرف فترة الانحطاط التي عرفها الأدب العربي في المشرق، ما يعني أن الانحطاط لم يكن شاملاً على عكس ما يقوله معظم دارسي الأدب العربي، ومن أطلق هذه الفكرة كان أستاذ الدراسات الأدبية المصري الدكتور طه الهاجري في مقاله الذي تعرضنا له آنفا، ولا شك أن استطلاعات الرأي لـ «العربي» ومقالاتها حول بلادنا أسهمت في كسر العزلة الثقافية والسياسية عنها، والتحضير للاعتراف السياسي بها، وانخراطها في جامعة الدول العربية الذي جرى عام 1974.
هذه الشعبية التي تمتعت بها العربي كانت نادرة وعامة في شرائح واسعة من القراء. بدءاً من طلاب المدارس الإعدادية والثانوية وحتى أساتذة الجامعات، حتى بين الفنانين والمغنين، يذكر الكاتب محمد المنسي قنديل في استطلاع نشرته العربي حول بلدنا عام 2008، أنهم طلبوا مقابلة المطربة الموريتانية الشهيرة المعلومة بنت الميداح التي كانت تستعد لرحلة فنية خارج البلاد فأجلت الذهاب للمطار لمدة ساعة لاستقبال فريق العربي في منزلها، وقالت لهم يومها: «هل تعلمون لماذا أصررت على استقبالكم؟ لأن مجلة العربي جاءت في الستينيات إلى قريتنا (الشارات) بالقرب من نهر السنغال، كنت طفلة صغيرة، لكن والدي ظل يحتفظ بهذا العدد حتى بعد أن كبرت كان والدي شاعراً فناناً ومداحاً للنبي الكريم».
 فليس من المستغرب، في ذلك الوقت في نهاية القرن الماضي، أن تجد طالباً شاباً ينهض مبكراً إلى مكتبة العرفان المجانية ليتمكن من الحصول على نسخة من المجلة، فيجلس ويقرأها خلال ساعات عمل المكتبة. ثم يعود في اليوم التالي مبكراً لاستكمال نسخته أو للحصول على نسخة من عدد آخر لقراءته. كان هذا يحدث في كل يوم من أيام السنة، وخاصة في أيام العطل عندما يكون الطلاب متفرغين للمطالعة.
وميزة «العربي» أنها مجــــلة رصـــــينة لا ترتبط بلحظة آنية، وإنما تقدم المعرفة التي تبقى مع الإنسان. فلم يكن هناك فرق كبير بين عدد قديم وآخر جديد، كما كان التنافس على اقتنائها من شركة الكتب الإسلامية على أشده، رغم أن استيرادها لم يكن منتظماً، لكن ربما يأتي عدد هكذا مصادفة، فما يبقى في المكتبة يوماً واحداً، أما حكاية أصحاب أكشاك الكتب المستعملة، واستبدال أعداد لم تقرأ بعدُ بالأعداد المقروءة من المجلة مع زيادة نقدية مبالغ فيها أحياناً، فهي حكايات كثيرة لا تُحصى! 
شكراً للعربي على ذلك الزمن الجميل الذي هيأته لنا..