كيف يمكنني أن أشرح ما أشعر به، مباشرة بعد إغلاق الصفحة الأخيرة من رواية “الهُمام”. سحر، عجب، حب، سفر عبر الزمن، عودة إلى عهد الصبا… كل هذه الكلمات تتدافع في رأسي، وتتبارى في نفس الوقت. فقط أشكركم أستاذنا السيد ولد أباه لأنكم نجحتم في جعلي أعانق الرفاق بعد طول انقطاع. العنوان وحده لم يجعلني أتوقع كتابا مثيرا ومشًوقا إلى هذا الحد، لكني مع القراءة وجدت نفسي في عمق كتاب يروي قصة رفاقي وقصتي وأجمل ما في حياتي.
أجل، منذ اللحظة الأولى شعرت أنكم تروون تاريخ الحركة الوطنية الديموقراطية المعروفة اختصارًا بحركة “الكادحين” التي ملأت الآفاق وشغلت البلاد والعباد في سبعينات القرن الماضي. جاءت الرواية على شكل علاقة غرامية بين شخصين رائعين هما “سلوى” التونسية و “الهُمام” الكادح. وهي علاقة حلوة وعميقة. أعجبني نضج حواراتهما وصدق مشاعرهما و تطور العلاقة بينهما من طلاب إلى رفاق نضال إلى عشاق. كل ذلك جاء بأسلوب سلس وجذاب، مما يجعل القراءة ممتعة للغاية.
“الهُمام” ورفاقه فتية نشأوا مع بوادر صحوة النضال ضد الاستعمار الجديد. وأخذوا على عاتقهم مهمة إنجاز الاستقلال التام وتحرير المجتمع من نير الامبريالية والإقطاع. اعتبروا أنفسهم الورثة الشرعيين للمقاومة والحركات الوطنية الأخرى، لا سيما حركة النهضة وجمعية الشبيبة الموريتانية، إلخ. كانوا مدفوعين بالكرم المتأصل في كل عمل شبابي بالطبع. وترافق ظهورهم مع انفتاح البلد على العالم في ظل الحرب الباردة والتشكيك في النموذج الغربي وبزوغ نجم الصين والحركات الماركسية التي تقود التمرد والتحرر والثورة في جل أنحاء المعمورة.
استفادت حركة “الكادحين” من عواصف “الثورة الأممية” التي كانت تجتاح العالم، و استمدوا منها غذاءهم الروحي والأيديولوجي. هذا بالإضافة إلى ما تميزوا به من رومانسية وأحلام وجنون وطوباوية وشجاعة وإخلاص واستعداد للتضحية؛ بالضبط كما ورد في الكتاب على لسان رفيقتنا “سلوى”.
لقد بذل “الهُمام” الغالي والنفيس قبل أن يتوفى بنيران صديقة في جو من الارتباك والحيرة جعل رفاقه يتفرقون طرائق قددا في مواجهة جرعات الإصلاح والتحولات الاستراتيجية التي باغتتهم من الداخل والخارج في آن واحد. داخليا، تبنّت السلطة مطالبهم الأساسية وقامت بتنفيذها في جو من النعومة والملاطفة والمهادنة والحوار بعد طول قمع وجلد وسجن أنهك قواهم. و خارجيا، بدأت الانشقاقات في الحزب الشيوعي الصيني (هروب لين ابياو، وفصل عصابة الأربعة وتعثر الثورة الثقافية)، وتراكمت جرائم “الخمير الحمر” و “الفيت كونغ” بعد دخولهم العواصم”بنوم بنه” و”هانوي”، وانكسار المد الحركي في فرنسا وعموم أوروبا بعد مايو 1968، إلخ..
في هذا الجو الصعب توفى “الهُمام”، و غربت شمس “الكادحين” وخبا نورهم تاركين وراءهم بصمات خالدة، تمثلت في: مراجعة العلاقات مع فرنسا، والخروج من منطقة الفرنك، وسك عملة وطنية، وتأميم مفيرما، وإصلاح التعليم لصالح التعريب واللغات الوطنية الأخرى، إلخ. وبفضل هذه المكاسب التاريخية، تتمتع موريتانيا اليوم بشيء من الاستقرار في منطقة ملتهبة من كل الجهات. أعني منطقة غرب أفريقيا التي تكافح وتناضل بالضبط لتحقيق ما حققته بلادنا في سبعينات القرن الماضي: مراجعة الاتفاقيات مع فرنسا والتحرر من نفوذها بما في ذلك الدفاع والأمن، الخروج من منطقة الفرنك وسك عملة وطنية، استرجاع السيطرة على الموارد الاقتصادية، وما إلى ذلك من عوامل سيادة وتحرر حققتها موريتانيا منذ عقود بفضل التلاقي بين نضال “الكادحين” و وطنية الرئيس المختار ولد داداه. وإننا و”سلوى” لنجد في هذه الانجازات الجوهرية حسن عزاء في رحيل رفيقنا وقائدنا العزيز “الهُمام”، تغمده الله بواسع رحمته.
مدار