إن أي متابع فطن للشأن العام لابد وأن تكون قد استوقفته ردود الأفعال المتباينة على خطابين هامين وشبه متزامنين ألقاهما فخامة رئيس الجمهورية في مناسبتين مختلفتين، تم تنظيمهما أو تخليدهما في آخر شهرين من العام الماضي.
يتعلق الخطاب الأول بخطاب الذكرى الحادية والستين للاستقلال، والذي تحدث فيه الرئيس ـ وبشكل واضح ـ عن الفساد وخطورته. أما الخطاب الثاني فهو خطاب وادان، والذي تحدث فيه الرئيس ـ وبشكل واضح أيضا ـ عن خطورة التراتبية الاجتماعية والخطاب المكرس لها.
كانت ردود الأفعال على الخطابين متباينة جدا، وذلك على الرغم من أنهما تحدثا عن موضوعين لا يمكن التفريق بينهما على مستوى الخطورة وإلحاح المواجهة، وإذا كان لابد من التمييز بينهما فيجب أن يكون لصالح محاربة الفساد، ذلك أنه لن يكون بإمكاننا أن نتحدث عن لحمة اجتماعية وعن استقرار في ظل تفشي الفساد، وهذا ما أشار إليه الرئيس في خطاب الاستقلال عند تعداده لمخاطر الفساد والتي ذكر منها: " هتكه قواعد دولة القانون، بما يضعف ثقة الأفراد فيها، ويصيب النسيج الاجتماعي في الصميم". إن تفشي الفساد قد أصبح بالفعل من أخطر ما يهدد اللحمة الاجتماعية واستقرار البلد، فالفئات الهشة والفقيرة في المجتمع لم تعد قادرة على تحمل المزيد من الفقر والتهميش والصبر على ذلك، في الوقت الذي ترى فيه موارد البلد وخيراته ينهبها المفسدون ويبذرونها تبذيرا.
كانت ردود الأفعال على الخطابين متباينة جدا، فخطاب وادان حُظي بردود أفعال إيجابية واسعة، فنظم حزب الاتحاد من أجل الجمهورية مهرجانا حاشدا لتثمينه، وأشاد العديد من السياسيين المحسوبين على المعارضة بمضامينه. أما بالنسبة لخطاب الاستقلال الذي ركز على الحرب على الفساد فإنه لم يحظ بما يستحق من اهتمام لا في فسطاط الأغلبية، ولا في فسطاط المعارضة.
فلماذا هذا التمييز الواضح بين الخطابين؟ فهل هناك من الطبقة السياسية من لا يرتاح لمحاربة الفساد؟ ثم أين هم ضحايا الفساد وغالبية الشعب الموريتاني من ضحايا الفساد؟ ولماذا لم يُظهروا أية ردة فعل إيجابية على خطاب الاستقلال، تثمينا له ودعوة لتنفيذ ما جاء فيه من وعود هامة؟
إن ضحايا الفساد هم أولى الناس بتبني خطاب الاستقلال، وهم الذين كان يجب عليهم أن يظهروا مناصرتهم ودعمهم لأي خطوة تتخذ في هذا الاتجاه عند تقاعس غيرهم لأسباب مفهومة أو غير مفهومة. هذه فقرة من مقال : "ألم يحن الوقت لإطلاق حراك شعبي ضد الفساد والمفسدين؟"، والذي نُشر يوم السبت، الموافق 19 فبراير 2022.
ما أشبه الليلة بالبارحة
لا جديد يذكر، فبعد مرور سنتين ونصف على نشر هذا المقال، فما تزال الأغلبية على حالها، وما زال حزب الإنصاف ـ على الأقل من حيث ردود الأفعال ـ غير متحمس لرفع شعار محاربة الفساد، ولوعود الرئيس المتكررة بمحاربته، فمن يتابع أنشطة الحزب في الفترة الأخيرة قد يجد اهتماما بالعديد من القضايا، ولكنه لن يجد أي اهتمام يذكر بمحاربة الفساد مع أن محاربة الفساد كانت هي الأكثر حضورا في خطابات وتوجيهات فخامة رئيس الجمهورية خلال الفترة الأخيرة.
لقد كنتُ من الذين توقعوا أن لا يُظهر حزب الإنصاف تحمسا كبيرا للحرب على الفساد، وهذا شيء طبيعي جدا، فالفساد لا تُمارسه المعارضة وذلك لكونها ليست هي من يتولى تسيير شؤون البلد، وإنما يمارس من داخل الأغلبية من طرف بعض الموظفين السامين أو رجال الأعمال أو غيرهم، ولذا فلا غرابة أن لا يتحمس الكثير من داعمي الرئيس لفتح أي ملف فساد جديد، وذلك خوفا من أن يتوالى فتح ملفات الفساد، فيصلهم الضرر عند فتح ملف من تلك الملفات.
إن مما يزيد الأمور تعقيدا هو أن المعارضة تقف هي كذلك في خندق واحد مع بعض الأطراف في الأغلبية بخصوص محاربة الفساد، فالمعارضة تُسارع دائما إلى القول بعدم الجدية وبتصفية الحسابات عند فتح أي ملف فساد جديد، فهي لا تريد أصلا أن تنسب أي عمل يستحق التثمين لرئيس الجمهورية الذي تعارضه، ثم إنها تقتات إعلاميا وسياسيا وشعبيا على رفع شعار "فساد النظام"، ومحاربة الفساد من طرف النظام الحاكم ـ أي نظام حاكم ـ ستعني تراجع شعبية ومصداقية المعارضة.
هناك شريك ثالث في المواقف السلبية من محاربة الفساد، وهو المجتمع التقليدي، فمن المعروف أن كل موظف، صالحا كان أو مفسدا، ينحدر من قبيلة أو شريحة أو جهة، ولذا فمن الطبيعي جدا أن تقف كل قبيلة مع ابنها المفسد عندما يفتح ضده ملف فساد، وذلك بحجة أنه ليس بالمفسد الوحيد في هذه البلاد، فلماذا يُختار هو دون غيره من المفسدين؟
ويبقى الشريك الرابع الذي يتصرف وكأنه غير متحمس لمحاربة الفساد يتمثل في بعض الطيبين الذين يدعمون بغباء كل ما تقوم به الأطراف السابقة من عمليات تشويش عند فتح أي ملف فساد، فيشككون في أي ملف فساد يفتح، ويتساءلون لماذا لم تفتح ملفات فساد أخرى، وكأنه بالإمكان أن تفتح ملفات الفساد كلها دفعة واحدة.
خلاصة القول في هذه الفقرة هي أن أغلب الطيف السياسي النشط سيحاول أن يربك أي ملف فساد يُفتح، لأسباب ودوافع مختلفة، وذلك في وقت تغيب فيه أي جهة داعمة لفتح ذلك الملف.
ما العمل؟
من المؤكد أن أكثر من 95% من الشعب الموريتاني تؤيد الحرب على الفساد، ولكن المشكلة أن هذه ال95% ستبقى غثاء كغثاء السيل، إذا لم تجد آليات للتعبير سياسيا أو إعلاميا أو شعبيا عن دعمها لمحاربة الفساد، وعن ترحيبها بكل ملف فساد يفتح في إطار محاربة الفساد.
إننا اليوم في أمس الحاجة إلى أن تظهر منظمات مدنية ومبادرات سياسية قادرة على أن تعبر سياسيا وإعلاميا عن دعم الشعب الموريتاني لمحاربة الفساد، على أن تمتلك تلك المبادرات من اليقظة والجاهزية ما يمكنها من إظهار الدعم لكل ملف فساد يُفتح، والمطالبة بعد ذلك بفتح المزيد من ملفات الفساد، وفق قاعدة "خُذْ وطالب"، أو على الأصح "ادعم وطالب"، أي ادعم أي ملف فساد يُفتح، ثم طالب بعد ذلك بفتح ملف فساد جديد، وهكذا...
إننا في "منتدى 24 ـ 29 لدعم ومتابعة تنفيذ برنامج رئيس الجمهورية" على قناعة تامة بأن الموريتانيين غير المفسدين معنيون جميعا بمحاربة الفساد، سواء كانوا معارضين أو موالين أو مستقلين، ولهذا فقد دعونا إلى تأسيس حلف وطني لمحاربة الفساد، ولكن هذه القناعة لن تمنعنا من القول بأن واجب محاربة الفساد في هذه المأمورية الرئاسية تقع أولا على داعمي الرئيس، وذلك لجملة من الأسباب، لعل من أهمها:
1 ـ أن الفساد تمارسه بعض الأطراف في الأغلبية، بحكم أن الأغلبية الداعمة هي التي تتولى تسيير شؤون البلد، ولذا فواجب محاربته يجب أن تتحمله الأغلبية من قبل المعارضة التي لا علاقة لها بتسيير شؤون البلد؛
2 ـ أن تعليمات فخامة رئيس الجمهورية المتعلقة بمحاربة الفساد كانت واضحة جدا وصريحة جدا، والأغلبية أولى من غيرها بتنفيذ تعليمات فخامة الرئيس؛
3 ـ أن الأغلبية ـ لا المعارضة ـ هي التي صوتت على برنامج "طموحي للوطن"، والذي تضمن التزامات واضحة وقوية بمحاربة الفساد، والأغلبية بعد تصويتها على هذا البرنامج أصبحت مسؤولة مع الرئيس عن تنفيذه، وخاصة ما يتعلق منه بمحاربة الفساد.
إن الكل معني بمحاربة الفساد، ولكن الأغلبية تقع عليها المسؤولية الأكبر، ومن داخل الأغلبية فيمكن القول أن المسؤولية تقع بشكل أكثر إلحاحا على الشباب والأطر النظيفة داخل هذه الأغلبية.
لقد أعطى فخامة الرئيس مكانة غير مسبوقة للشباب في برنامجه الانتخابي، وجسد ذلك بضخ دماء شبابية في أول حكومة تشكل في المأمورية الأولى، وبرفع المكانة لبروتوكولية للوزارات المعنية بالشباب، وجسده كذلك بالالتزام بمحاربة الفساد، والشباب هم الأكثر تضررا من الفساد، ومع كل ذلك، فما زال الشباب عموما، والشباب في الأغلبية خصوصا، وفي الإنصاف بشكل أخص، غائبا تماما عن المشهد السياسي والإعلامي، وعاجزا عن إطلاق مبادرات داعمة للحرب على الفساد في ظل عدم تحمس الأغلبية التقليدية لها، لأسباب مفهومة وغير مفهومة.
على الشباب وعلى الأطر النظيفة في الأغلبية أن يكونوا أكثر حيوية ونشاطا، وعليهم أن يبادروا للتعبير سياسيا وإعلاميا وجماهيريا عن دعم الشعب الموريتاني لمحاربة الفساد، وإصلاح الإدارة، والتمكين للشباب، وعليهم أن يعلموا أننا إذا لم نحارب الفساد بشكل جاد في هذه المأمورية، فإن مصير البلد، ومصير النظام، ومصيرنا جميعا سيكون مفتوحا على كل الاحتمالات الأكثر تشاؤما.
حفظ الله موريتانيا..